بيئات العمل السامة!.. مواطنون ومختصون يتحدثون لـ"الرؤية" عن مسببات تدهور الصحة النفسية وصولا للاحتراق الوظيفي

الموسوي: غياب التقدير وضعف التنظيم أبرز مسبّبات الضغط النفسي في بيئة العمل

الوردية: العمل في بيئة غير عادلة يفاقم الإحساس بالإحباط

الفهدي: الاستقرار النفسي في بيئة العمل حجر أساس النجاح

اللواتية: راحة الموظف تبدأ من التقدير وتنتهي بحماية صحته النفسية

المعمرية: الإرهاق المزمن وتراجع الأداء مؤشرات مبكرة على تدهور الصحة النفسية في العمل

◄ 15% عانوا من اضطراب نفسي من بين مليار شخص في 2022

 

الرؤية- سارة العبرية

أكد عدد من المواطنين أنَّ بيئة العمل قد تتحوّل إلى عامل ضاغط على الصحة النفسية ما لم تتوافر فيها معايير الدعم والتقدير والتنظيم، فبينما يُفترض أن تكون المؤسسات مساحة للنمو المهني والتحفيز، تشير تجارب واقعية إلى أن غياب الوضوح في المهام وضعف التواصل وتجاهل الجوانب النفسية قد تؤدي إلى الإرهاق المزمن وصولا للاستقالة.

وأشاروا- في تصريحات لـ"الرؤية"- إلى ارتفاع معدلات التوتر لا سيما في المؤسسات التي تفتقر إلى ثقافة التقدير أو قيادة داعمة، مستعرضين أبرز التحديات والحلول العملية التي تعزّز الصحة النفسية وتدعو لإعادة النظر في معايير بيئة العمل السليمة، باعتبارها ليست رفاهية، بل أساسًا للاستدامة والنجاح.

وقال الحسين بن علي الموسوي مدير التسويق والإعلام بالكلية العالمية للهندسة والتكنولوجيا، إن تجربته الأولى في سوق العمل كانت مرهقة نفسيًا بشكل كبير؛ حيث وُضع تحت ضغط يفوق طاقة أي موظف، مضيفا: "شعرت في أول وظيفة لي أنني أتحمل مسؤوليات لا يُمكن لشخص واحد القيام بها، بينما لم يكن المقابل المادي متناسبًا مع حجم العمل المطلوب، وغالبًا ما يحدث هذا في بعض الشركات الصغيرة أو المتوسطة التي تفتقر إلى التنظيم الواضح وغياب ثقافة التقدير والتحفيز".

وأشار الموسوي إلى أنَّ ما زاد من حدة التوتر هو غياب الدعم الإداري وعدم وجود توازن بين الحياة المهنية والشخصية، وأنه كان يعود إلى المنزل في حالة من الإرهاق الذهني الذي أثر سلبًا على علاقاته وتواصله مع محيطه، مضيفا: "تعلمت من تلك التجربة أهمية وضع حدود مهنية واضحة، والبحث عن بيئة تحترم الإنسان قبل الإنجاز، وهو ما دفعني لاتخاذ قرار عقلاني بالانتقال إلى مكان عمل أكثر توازنًا وإنصافًا".

وفي حديثه عن أبرز مسببات التوتر النفسي في بيئة العمل، لفت الموسوي إلى أن غياب الوضوح في المهام والمسؤوليات من أهم العوامل، وعدم وجود توصيف وظيفي مُحدد يخلق تشوشًا وتراكُمًا في المهام، كما أن تداخل الأدوار وعدم التخصصية يؤدي إلى تحميل الموظف أعباء خارجة عن نطاق خبرته، معتبرًا أن ضعف التواصل سواء مع الإدارة أو بين الزملاء، يعمّق الإحساس بعدم التقدير والعزلة، بينما تؤدي ثقافة العمل التي تركز على الأخطاء وتتجاهل التحفيز إلى تدهور الحالة النفسية للموظف وانخفاض دافعيته.

وعن الحلول الممكنة، دعا الموسوي المؤسسات إلى خلق بيئة أكثر دعمًا للصحة النفسية من خلال ممارسات بسيطة لكنها فعالة، منها اعتماد نظام عمل مرن يركّز على النتائج لا على تفاصيل شكلية مثل الحضور والانصراف، إلى جانب إتاحة فرص التواصل المباشر مع الإدارة عبر سياسة الباب المفتوح.

وأضاف: "من أبرز التجارب الإيجابية التي أعيشها حاليًا وجود مساحة حقيقية للحوار داخل المؤسسة، وتعريف الموظفين بسياسات العمل بوضوح، فضلًا عن تخصيص أماكن للراحة وتنظيم فعاليات داخلية تُعزز العلاقات بين الزملاء". كما شدد على أهمية توفير مختص نفسي أو استشاري داخل المؤسسة يتيح للموظفين التعبير عن التحديات التي يواجهونها بسرية ومهنية".

ونصح الموسوي كل من يُعاني من ضغوط نفسية في العمل، قائلًا: "لا تبرر الإرهاق بأنه طبيعة العمل، ولا تتجاهل مشاعرك، تحدث مع مديرك أو الموارد البشرية واطلب تعديلات تخفف الضغط، وإن لم تجد تجاوبًا حقيقيًا، لا تتردد في البحث عن بيئة بديلة؛ فالعمل يجب أن يضيف لك لا أن يستنزفك، وصحتك النفسية ليست رفاهية؛ بل هي أساس لنجاحك المهني والشخصي".

الحسين بن علي الموسوي.jpg
 

من جانبها، قالت عائشة بنت محمد الوردية الرئيسة التنفيذية لمؤسسة الوردي للاستشارات، إنها شعرت أكثر من مرة أن بيئة العمل أثرت على صحتها النفسية بشكل مباشر، ووصفت تلك التجربة بأنها صادمة في بدايتها، إذ لم تكن تتخيل أن بيئة العمل يمكن أن تكون سامّة إلى هذا الحد، فقد كانت تملك صورة مثالية عن طبيعة العمل، قبل أن تصطدم بالواقع وتدرك أنه قد يكون مؤذيًا لدرجة تمسّ توازنها النفسي.

وأضافت الوردية أنها في البداية لم تكن تعرف كيف تتعامل مع هذا الضغط، وكانت تعاني في صمت، تشعر بالضيق الدائم دون أن تجد تفهمًا حقيقيًا من المحيطين بها، الذين كانوا يختصرون الأمر بعبارات مثل: "إنها مجرد وظيفة، تعاملي معها"، لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة. ومع مرور الوقت، بدأت تتعامل مع الوضع بشكل مختلف؛ حيث قررت ألا تمنح العمل كل مشاعرها، وأن تنظر إليه كجزء من الحياة لا الحياة بأكملها.

ولفتت الوردية إلى أن من أبرز العوامل التي تسبب الضغط النفسي في بيئة العمل هو أسلوب المدير المباشر، خاصة إذا كان من نوعية "micromanager"، مضيفة أن العمل في بيئة غير عادلة يفاقم الإحساس بالإحباط، خاصة إذا غابت فرص الترقية أو كان التقدير قائمًا على المحاباة لا على الكفاءة، مشيرة إلى أن عبء العمل الزائد مع غياب التقدير، وانعدام التوازن بين الحياة والمهنة، وغموض الأدوار، كل ذلك يمكّن أن يؤدي تدريجيًا إلى الإرهاق النفسي وفقدان الحافز.

واقترحت الوردية عدة حلول يمكن للمؤسسات من خلالها خلق بيئة أكثر دعمًا للصحة النفسية، على رأسها بناء بيئة آمنة نفسيًا يشعر فيها الموظفون أن ارتكاب الأخطاء لا يُقابل بالعقاب بل يُعد جزءًا من رحلة التعلّم، مشددة على أهمية أن تتغير ثقافة المؤسسات لتصبح أكثر وعيًا ودعمًا للصحة النفسية، فنجاح الأفراد يبدأ من بيئة عمل إنسانية وآمنة.

عائشة بنت محمد الوردية.jpeg
 

وفي السياق، بيّن عبدالله بن نصرالله الفهدي أخصائي اجتماعي في إحدى المدارس، أنَّ الاستقرار النفسي في بيئة العمل هو حجر الأساس في تحقيق العطاء والإنتاجية والنتائج الإيجابية، مشيرا إلى أن فقدان هذا الاستقرار أمر طبيعي الحدوث، خاصة في بيئات العمل التي تتطلب تفاعلًا إنسانيًا مكثفًا، مثل المؤسسات التربوية.

وأوضح الفهدي أنَّه يواجه بشكل شبه يومي تحديات نفسية ناتجة عن طبيعة عمله، التي تفرض عليه التعامل مع أطياف واسعة من البشر، بدءًا من الطلاب، ومرورًا بالهيئة التعليمية والإدارية، وانتهاءً بأولياء الأمور، مبينا: "نحن نتعامل مع بيئات أسرية وتربوية متنوعة، وكل ذلك ينعكس على سلوك الطلبة داخل المدرسة، مما يجعل الضغوط النفسية متكررة ومستمرة".

ويرى أن كثرة الأعباء وتعدد المتطلبات، وعدم مراعاة الواقع الميداني من قبل الجهات الإدارية، كلها عوامل تزيد من التوتر، خصوصًا حين يُطلب من الأخصائي الاجتماعي أن يتعامل بمفرده مع مئات الطلاب، في وقت تتزايد فيه مشكلات الأجيال الجديدة من صعوبات تعلم، وأمراض نفسية وجسدية، وتدني تحصيل دراسي، وتحديات سلوكية معقدة.

وأكد الفهدي أن تعامله مع هذه التحديات يعتمد على العمل بروح الفريق داخل المدرسة، والتعاون مع الإدارة، وتوزيع المهام بشكل فعّال بين اللجان التعليمية، مطالبا الجهات المعنية بضرورة توفير بيئة عمل داعمة، تشمل توفير العدد الكافي من الموظفين في الوظائف الفنية، ومراعاة احتياجات الميدان، وتهيئة أماكن مناسبة لأداء المهام التربوية، متابعاً: "العمل مسؤولية وأمانة قبل أن يكون مجرد وظيفة، ونحن نؤدي مهامنا إرضاءً لله وضميرنا، ولكن من المهم أيضًا أن تُبنى السياسات المهنية على فهم الواقع واحترام الإنسان".

عبدالله ين نصرالله الفهدي.jpeg
 

أما من وجهة نظر زينب بنت أنور اللواتية أخصائية نفسية، فتقول: "التقدير والاحترام والمراعاة من أهم المرتكزات التي تعزز الصحة النفسية للموظف، مشيرة إلى أن راحة الموظف النفسية لا تُبنى فقط على الراتب أو الامتيازات، بل تبدأ من بيئة تحترمه وتؤمن بقدراته وتدعمه".

وترى أن الاهتمام بنقاط القوة لدى الموظفين، ومنحهم مسؤوليات تعكس مهاراتهم، وتعزز شعورهم بالإنتاجية، هو ما يخلق لديهم دافعًا للاستمرار والعطاء، كما شددت على أن منح الموظف حرية إبداء الرأي والمشاركة في القرار يرسّخ شعور الرضا والانتماء، وهو أحد مفاتيح التوازن النفسي في بيئة العمل.

وتحذر اللواتية من تجاهل هذه الجوانب، مؤكدة أن الآثار النفسية تظهر سريعًا على سلوك الموظف، فتبدأ بالمماطلة، وتأخير إنجاز المهام، والتأخر عن أوقات الدوام، وربما تمتد إلى مشكلات في المزاج والانفعالات والتعامل داخل المؤسسة.

وتلفت إلى ضرورة التمييز بين الإرهاق العابر الذي قد يزول مع تغيير الروتين أو أخذ إجازة قصيرة، وبين الاحتراق الوظيفي الذي يمتد لفترات طويلة وقد يدفع الموظف إلى التفكير الجدي في الاستقالة، أو يؤدي إلى أعراض نفسية وجسدية مثل الكسل، واضطرابات النوم، والتوتر المزمن، وتقلّب المزاج، وفقدان الشغف.

وتضيف أن الاعتناء بالصحة النفسية ضرورة يومية، ويمكن أن يبدأ بأبسط الوسائل، مثل ممارسة الامتنان والشكر، أو تخصيص وقت للتأمل والاسترخاء، وتوصي أيضًا بممارسة الرياضة، حتى وإن كانت لعشر دقائق فقط، لما لها من دور فعّال في إفراز هرمون "الأندورفين" الذي يسهم في تحسين المزاج وتخفيف التوتر.

زينب بنت أنور اللواتية.jpeg
 

وتحذر الدكتورة يسرى بنت خليفة المعمرية طبيبة متخصصة في علم النفس الوظيفي، من تجاهل المؤشرات السريرية التي تدل على تدهور الصحة النفسية للموظف، مؤكدة أن بيئة العمل السامة قد تظهر تأثيرها على شكل أعراض جسدية، نفسية، سلوكية، واجتماعية.

ومن أبرز هذه الأعراض: الإرهاق المستمر، اضطرابات النوم، الصداع المتكرر، آلام جسدية غير مفسرة، انخفاض التركيز والدافعية، التوتر المزمن، الانعزال الاجتماعي، وسوء العلاقات داخل المؤسسة. وتلفت إلى غياب الدعم النفسي في بيئة العمل يُفضي إلى سلسلة من الآثار السلبية المتراكمة، تبدأ بانخفاض مستويات الرضا الوظيفي والانتماء، وتضعف الاندماج المهني بين الموظف والمؤسسة. كما يؤدي ذلك إلى ارتفاع في معدلات الغياب المرضي، وظهور ما يُعرف بـ"التغيب النفسي" أو presenteeism، وهو حضور جسدي بلا إنتاجية فعلية، يُشبه إلى حد كبير بما يسمى بـ"الاستقالة الصامتة"؛ حيث يكون الموظف حاضرًا بجسده، لكنه منطفئ نفسيًا ومعنويًا، إذ تنعكس هذه الحالة سلبًا على معدلات الاستقرار الوظيفي، حيث تزداد حالات الاستقالات الطوعية، خاصة في المراحل المبكرة من التوظيف، إلى جانب تراجع في مستويات الإنتاجية والإبداع، وصعوبة في الاحتفاظ بالمواهب، فالموظف حين يشعر بأنه "غير مرئي" نفسيًا، أو أن ضغوطه لا تُؤخذ بجدية، يبدأ بالانسحاب الذهني والعاطفي من المؤسسة، حتى وإن لم يُقدّم استقالته رسميًا.

وتشير المعمرية إلى أن التدخل النفسي يصبح ضرورة حين تبدأ هذه الأعراض بالتأثير على الحياة اليومية أو حين تظهر مؤشرات واضحة على اضطرابات مثل الاكتئاب أو نوبات الهلع، أو في حال وجود أفكار إيذاء الذات.

وتربط المعمرية بين نمط القيادة والصحة النفسية للموظفين، موضحة أن الأنماط السامة مثل القيادة الاستبدادية أو الغائبة أو الناقدة باستمرار تساهم في تآكل الرفاه النفسي، بينما ترتبط القيادة الداعمة والتحويلية بمستويات أعلى من الرضا والاندماج المهني.

وتؤكد أنَّ غياب الدعم النفسي داخل المؤسسات يؤدي إلى تراجع الإنتاجية، ارتفاع الاستقالات، انخفاض الولاء الوظيفي، وصعوبة الاحتفاظ بالكفاءات، خاصة في المراحل الأولى من التوظيف.

وتقول المعمرية إن الوعي المؤسسي في سلطنة عُمان بدأ يتحسن تجاه أهمية الصحة النفسية المهنية، لكن الحاجة لا تزال قائمة لتطبيق ممارسات عملية ومستدامة تتجاوز الشعارات، مشددة على أن الصحة النفسية في بيئة العمل ليست ترفًا؛ بل ركيزة أساسية لاستمرارية الأداء والنجاح المؤسسي، وتدعو لأصحاب القرار إلى خلق بيئة تُراعي الإنسان وتضع رفاهيته في مقدمة الأولويات، مؤكدة أن الاستثمار في راحة الموظف يعود على المؤسسة بالإنتاجية والولاء". وفي المقابل، تحث الموظفين على عدم تجاهل الضغوط النفسية أو التطبع معها كأمر معتاد، ويجب طلب الدعم عند الحاجة، والتعامل مع صحتهم النفسية بنفس الجدية التي يحمون بها وقتهم وجهدهم".

د. يسرى بنت خليفة  المعمري.jpeg
 

وأظهر تقرير الصحة النفسية العالمي الصادر عن منظمة الصحة العالمية والمنشور في يونيو 2022 أنه كانت هناك نسبة 15% من البالغين في سن العمل ممّن عانوا من اضطراب نفسي من بين مليار شخص كانوا يعانون من اضطرابات نفسية في عام 2019.

وبيّن التقرير أنَّ التنمر والعنف النفسي -المعروفين أيضًا باسم "المضايقة"- هما من الشكاوى الرئيسية بشأن التعرض للمضايقات في العمل وهما يخلفان أثرا سلبياً على الصحة النفسية.

 

   

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة